الشباب يبنون السلام من أجل مستقبل مستدام
بالنسبة للعديد من الشباب، فإن السلام ليس مجرد فكرة تجريدية أو شعار سياسي، بل هو مسألة شخصية: ضرورة يومية تُشكّل مستقبلهم. وعلى الرغم من أن الصراع والعنف أصبحا واقعًا مرئيًا يُبث مباشرة عبر الهواتف والشاشات، إلا أن الشباب يختارون أن يتحركوا. فمن بدء الحوار في المجتمعات المنقسمة إلى الانخراط في صنع القرار لمواجهة خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، يتولى الشباب زمام القيادة؛ ليس فقط كمناصرين، بل كمهندسين للسلام.
إن السلام الدائم هو أساس التنمية المستدامة، والتنمية ضرورية لتحقيق السلام المستدام. كما قال الأمين العام للأمم المتحدة مؤخرًا خلال نقاش مفتوح حول السلام والأمن: "السلام المستدام يتطلب تنمية مستدامة". وأضاف الأمين العام: "ليس من قبيل الصدفة أن تسعًا من أصل عشر دول ذات أدنى مؤشرات التنمية البشرية هي حاليًا في حالة صراع".
ولهذا السبب، يتعاون منسقو الأمم المتحدة المقيمون وفرق الأمم المتحدة القطرية التي يقودونها حول العالم مع الشباب لتعزيز قيادتهم. فخلق فرص للمبادرات السلمية يمكن أن يحقق تقدمًا في مجالات التعليم والوظائف والصحة والمساواة والأمن وغير ذلك. وتُجسد أعمال هذه الفرق الأممية على الأرض مبادرات عبر المنظمة، بما في ذلك تلك التي يدعمها مكتب الأمم المتحدة للشباب وشركاؤه. وبدعمهم، يحصل القادة الشباب على الأدوات والمنصات التي يحتاجونها لتعزيز التماسك الاجتماعي وإعادة بناء المجتمعات.
فيما يلي خمس رؤى حول الشباب وبناء السلام، مستخلصة من عمل فرق الأمم المتحدة القطرية لخدمة الناس والكوكب:
1. الشباب لا يريدون مجرد مقعد؛ بل يريدون المسؤولية في بناء السلام
رعاية قادة السلام في إثيوبيا
في إثيوبيا، لا يطلب الشباب مجرد صوت في بناء السلام؛ بل يتحملون المسؤولية عنه. ومع أن أكثر من 75 % من السكان تحت سن الثلاثين، فإن الشباب الإثيوبيين يمتلكون إمكانيات هائلة لتشكيل مستقبل الأمة. ومن هذا المنطلق، تدعم الأمم المتحدة في إثيوبيا الحكومة الإثيوبية في اتخاذ خطوات فعالة لضمان أن يكون الشباب في صميم مبادرات بناء السلام.
من أبرز الإنجازات في هذا المسار تأسيس شبكة بناء السلام الإثيوبية، وهي منصة مفتوحة تضم منظمات غير حكومية، ومجتمع مدني، ووكالات أممية، وشركاء تنمية، تهدف إلى تعزيز المعرفة والقدرات والتعاون لبناء السلام في جميع أنحاء البلاد. وفي إطار هذه الشبكة، تم تأسيس شبكات مخصصة للشباب والسلام والأمن على المستويين الوطني والمحلي، مما وفر مساحات للقادة الشباب.
وقد مهدت هذه الجهود الطريق لوضع خطة عمل وطنية للشباب والسلام والأمن، تقودها وزارة شؤون المرأة والشؤون الاجتماعية. وتتلقى المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والوكالات الدولية تدريبات حول قضايا الشباب والسلام والأمن، وأُجريت دراسات موضوعية لدمج هذه القضايا في جوهر جهود بناء السلام في البلاد. كما تقوم نوادي السلام في المدارس بتدريب الطلاب على الوساطة وفض النزاعات. وفي إطار برنامج بناء السلام الإقليمي مع الاتحاد الأوروبي، تم تدريب نحو 300 شاب وشابة من بُناة السلام في أسوسا وغامبيلا على الوساطة باستخدام دليل بناء السلام التابع لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وقد نقل هؤلاء القادة مهاراتهم بالفعل إلى أكثر من 1000 من أقرانهم على مستوى القاعدة.
2. الفنون والإبداع بقيادة الشباب أدوات فعالة للمصالحة والتواصل
البوسنة والهرسك وفنزويلا توظفان الفنون والسلام عبر اللعب
في البوسنة والهرسك، حيث لا تزال آثار الحرب ماثلة، أصبحت الموسيقى واللعب جسورًا للمصالحة والشفاء بين الأجيال. وتركز جهود الأمم المتحدة هناك على تمكين الشباب في هذا السياق. ففي معسكر الموسيقى للمواهب الشابة، الذي يدعمه صندوق الأمم المتحدة للسكان، اجتمع عازفون شباب من مناطق مختلفة — بانيا لوكا، موستار، توزلا، زينيكا، وسراييفو — كفرقة واحدة، مما أظهر أن الإبداع المشترك يمكنه استبدال الانقسامات القديمة بالثقة والصداقة.
كما أدخل الشباب السلام إلى الصفوف الدراسية عبر لعبة لوحية قاموا بتصميمها تُدعى "أوديسا من أجل السلام"، والتي تمزج بين التراث المحلي ودروس بناء السلام وأهداف التنمية المستدامة. تم تطوير هذه اللعبة في مختبر التعليم من خلال الألعاب بدعم من صندوق بناء السلام التابع للأمم المتحدة، وستُدمج قريبًا في المناهج الدراسية، مما يجعل المصالحة تجربة عملية.
وفي فنزويلا، قدمت الفرق الوطنية للشباب والأطفال من الأوركسترا والجوقات، المدعومة من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لأكثر من مليون طفل وشاب في المجتمعات الهشة تدريبًا موسيقيًا على مدى أكثر من 15 عامًا. لكن الأمر يتجاوز الموسيقى؛ فهذه البرامج تغرس قيم السلام والتماسك الاجتماعي والانضباط لتمكين المجتمعات. كما مثلت فعاليات مثل لقاء الشباب "جيل 2030" وورش العمل التشاورية محطة مهمة لتعزيز صوت الشباب. ويساعد فريق استشاري شبابي جديد للأمم المتحدة في فنزويلا على تنفيذ ومتابعة أهداف التنمية المستدامة.
3. مشاركة الشباب في الحياة المدنية تتطلب وسائل مبتكرة وتقنية
تعزيز الحوار الرقمي في غواتيمالا
لا يمكن لبناء السلام أن يتم بمعزل عن المشاركة المدنية. ففي غواتيمالا، يواجه الشباب، وخاصة النساء والشباب من السكان الأصليين، صعوبات في الوصول إلى الساحات السياسية الرسمية. وهنا توفر التكنولوجيا الرقمية حلًا فريدًا لكسر هذه الحواجز. بالتعاون بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وإدارة الشؤون السياسية وبناء السلام ومكتب المنسق المقيم، تم إنشاء منصة حوار رقمية: "شباب غواتيمالا يتحاور"، وهي منصة مدعومة بالذكاء الاصطناعي ومُتاحة عبر الهواتف، تتيح إجراء حوار مجهول. شارك أكثر من 900 شاب وشابة من جميع مناطق البلاد الـ22 لمناقشة قضايا الإصلاح الانتخابي، ومكافحة الفساد، والإصلاح المدني، والحكم، وصوتوا على الأفكار في الوقت الفعلي. يمثل هذا النموذج شكلاً جديدًا من المشاركة الشاملة، يتميز بالكفاءة، وانخفاض التكلفة، وارتفاع الأثر.
4. المساحات الآمنة والحوار بين الأجيال أساسيان لبناء السلام
الشباب يتولون القيادة في جنوب السودان
في جنوب السودان، جمعت مبادرة "الشباب يقودون السلام" أكثر من 800 شاب وقائد لتطوير أول استراتيجية وطنية للشباب والسلام والأمن. وقد تم تدريب أكثر من 300 قائد شاب وهم الآن يشاركون بفاعلية في الوساطة وحل النزاعات وتعزيز التماسك الاجتماعي. وقد أفضت جهود مبادرة صناعة الدستور إلى إنتاج ميثاق شباب جنوب السودان، الذي يوضح أولويات الشباب لضمان دمجها في الدستور الدائم ومشاركتهم الحقيقية في العملية السياسية.
5. تمكين النساء الشابات من رفع أصواتهن من أجل السلام يعزز تعافي المجتمعات
التركيز على النوع الاجتماعي في جهود بناء السلام في اليمن
في اليمن، لا يزال السلام هشًا، لكن الشباب من نساء ورجال يسهمون في تعزيزه. ومن خلال مرفق دعم السلام التابع للأمم المتحدة، تلقى ما يقرب من 1,600 شاب/ـة في عدن منحًا لمشاريع محلية لبناء السلام، كان من بينهم العديد من النساء. كما يجري تدريب قائدات شابات ضمن شبكة النوع الاجتماعي في جامعة عدن، وهنّ الآن يشاركن في النقاشات الوطنية حول السلام والأمن.
الوظائف غير التقليدية والمُحسّنة من حيث النوع، مثل العمل في الشرطة ووحدات حماية الأسرة، باتت تُتاح بشكل متزايد للنساء، مع جهود واضحة للتدريب والتوظيف من أجل إدماج وجهات نظرهن في إنفاذ القانون. وبمساندة صندوق الأمم المتحدة للسكان، تم دمج اعتبارات النوع الاجتماعي في خطة العمل الوطنية للشباب عبر فريق العمل المشترك بين الوكالات المعني بالشباب. هذه الجهود، في المجتمعات الخارجة من النزاع، لا تُعيد فقط الشعور بالأمان، بل تُمهّد أيضًا لتنمية شاملة ومستدامة تدعمها أسس السلام الدائم. ولا يزال ميثاق الشباب والسلام والأمن يلعب دورًا في الحوكمة الشبابية والدعوة في سياقات ما بعد النزاع، كما يوفر تدريبًا للشرطة حول نقاط التفتيش وحماية المدنيين.
من الهامش إلى المركز
عندما يتعلق الأمر بمستقبل أكثر عدلاً وسلامًا واستدامة، لا ينتظر القادة الشباب أن يُسلّم إليهم هذا المستقبل؛ بل هم يبنونه بأنفسهم، يومًا بعد يوم، بشجاعة ورعاية وقناعة.
من خلال تزويدهم بالمنصات المناسبة، والتدريب، والأدوات، والثقة، تساعد الأمم المتحدة على ترسيخ السلام الدائم ورفع شأن جيل جديد من صنّاع التغيير.
كما ذكّر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، مجلس الأمن في يونيو 2025 قائلاً:
"السلام لا يُبنى في غرف المؤتمرات. السلام يُبنى في الفصول الدراسية، في العيادات، في المجتمعات. السلام يُبنى عندما يشعر الناس بالأمل، ولديهم الفرصة، ويشعرون بأن لهم دورًا في مستقبلهم."